فصل: مسألة المسرح يكون بين القوم فيريدون اقتسامه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة المسرح يكون بين القوم فيريدون اقتسامه:

وسئل ابن وهب عن المسرح يكون بين القوم فيريدون اقتسامه هل ذلك لهم؟ فقال: لا يغير عن حاله التي كان عليها، وليس تقسم المسارح إنما تقسم الأرضون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والقول فيها مستوفى في رسم أول عبد ابتاعه فهو حر من سماع يحيى فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة لهم قرية يسكنونها ويزرعونها وأمام مزرعتهم مرعى لماشيتهم:

من نوازل سئل عنها سحنون بن سعيد وسئل سحنون عن قوم لهم قرية يسكنونها ويزرعونها وأمام مزرعتهم مرعى لماشيتهم فعمد أكثر أهل تلك القرية إلى ذلك المرعى فحرثوه وزرعوه وبقي منهم ناس لم يأخذوا من المرعى شيئا ولم يزرعوا فيه شيئا وزرع الذين اختطوا سنين وزمانا أيكون للذين لم يأخذوا فيه معهم شيء أم لا؟ قال: لا يكون لهم معهم شيء.
قلت: ويكون المرعى للذين زرعوا وعملوا؟ قال: نعم إذا كانوا قد عمروه وزرعوه زمانا ولم يرفع ذلك إلى السلطان حتى عمروه كما وصفت فأراه للذين عمروه بالحرث دون الذين لم يعمروا.
قال الإمام القاضي: قول سحنون هذا خلاف قول ابن القاسم في آخر سماع يحيى: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمن جدا، وهذه المسألة تتخرج على اختلافهم في غامر القرية ومرعاها إذا كان خارجا عنها، إذ قد قيل: إنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم فيها إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا، وقيل: إنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك، وقيل: إنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه لأهل القرية، فعلى القول بأنه محمول على أنه لأهل القرية على قدر سهامهم فيها إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون مدة تكون الحيازة فيها عاملة بين الأقارب أو بين الأجنبيين على الاختلاف فيما حازه بعض الأشراك على بعض هل هم في ذلك بمنزلة الأجنبيين أو بمنزلة الأقارب كانوا أحق بما حازوه إن ادعوا أنهم استخلصوه لأنفسهم من أشراكهم بقسمة أو ابتياع أو هبة أو صدقة مع أيمانهم على ذلك، وعلى القول بأنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يدعيه أهل القرية فيصدقون في ذلك إن حاز أحد منهم بالعمارة شيئا منه دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون مدة تكون فيها الحيازة عاملة بين الأجنبيين، كان القول قول الحائزين مع أيمانهم فيما حازوه أنه مالهم وملكهم وبطل فيه دعوى الحاضرين للحيازة عليهم، وعلى القول بأنه محمول على أنه موات لجميع المسلمين إلا أن يثبت أنه لأهل القرية إن حاز أحد منهم شيئا منه بالعمارة دون سائرهم وهم حضور لا يغيرون ولا ينكرون كان القول قول الحائزين فيما حازوه واعتمروه بمجرد دعواهم أنه لهم دون يمين، وبالله التوفيق.

.مسألة العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف على حيطان الأسفل الضعف:

قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن العلو يكون لرجل والأسفل لآخر فيخاف على حيطان الأسفل الضعف من قبل شقوق بها إن بنى الأعلى، قال: يهدم الأسفل ويبني مثل ما كان أولا.
قلت: وعلى من رفد الأعلى؟ قال: على الأسفل.
قال محمد بن رشد: في المجموعة لابن القاسم خلاف رواية سحنون هذه عنه أن على صاحب العلو إدعام علوه حتى يبني صاحب السفل إذا احتاج إلى ذلك، ولكلا القولين وجه من النظر، ورواية سحنون أبين.

.مسألة غرس في واد فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي:

من سماع أصبغ بن الفرج من ابن القاسم من كتاب الأقضية والأحباس قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن رجل غرس في واد فكان ماء ذلك الوادي يسقي به غرسه فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي، قال: ليس له أن يحدث على الأول ما يقطع رحاه إلا أن يكون فيه ماء يكفيهما جميعا، قال أصبغ: وذلك إذا اشترك الأول بالإحياء والغرس والانتفاع بالماء.
قال محمد بن رشد: قوله فجاء رجل آخر فغرس في ذلك الوادي يريد أنه غرس فوق الأول ليكون أحق بالماء منه على ما يوجبه الحكم في ماء النهر أن يبدأ الأعلى على الأسفل في السقي به حسبما أحكمته السنة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في سيل مهزور ومذينب «أن يمسك الأعلى حتى يبلغ الماء إلى الكعبين ثم يرسله على الأسفل» فلم ير ذلك له إذا لم يكن فيما فضل عنه من الماء ما يكفيه لأنه قال: إن ذلك إنما يكون له إذا كان في الماء ما يكفيهما جميعا، فعلى قوله إذا لم يكن فيما فضل عنه من الماء ما يكفيه بدئ هو بالسقي عليه فكان له هو ما فضل عنه، وقول أصبغ مبين لقول ابن القاسم أن الثاني إنما يمنع أن ينشئ غرسا فوق الأول ينقطع به الماء عنه إذا بدئ بالسقي عليه أو كان لا يفضل عنه ما يكفيه إذا كان غرسه قد انتفع بالماء ونبت به وحيي من أجله، ولأصبغ في الواضحة خلاف قول ابن القاسم هو أن للثاني أن ينشئ حائطا فوق حائط الأول وإن لم يكن في الماء إلا ما يقوم به فانقطع السقي عن الأسفل على ظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يمسك الأعلى حتى يبلغ إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل» إذ عم ولم يخص، فوجب أن يحمل على عمومه إنشاء الأعلى قبل الأسفل أو الأسفل قبل الأعلى. وقول ابن القاسم أظهر وأولى لأن الماء إذا لم يكن فيه إلا ما يسقي به أحدهما فأحدث الثاني حائطا فوق الأول أضر بالثاني وأبطل عليه حائطه ومنعه منفعة قد سبق إليها وحازها، وقد نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الضرر والضرار فوجب أن يخص بنهيه هذا عموم قوله: «يمسك الأعلى حتى يبلغ إلى الكعبين ثم يرسل على الأسفل» فيكون مخصصا في الموضع الذي لا ضرر فيه، وهو إذا أنشأ جميعا حائطيهما معا أو أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل، فإنما ذهب أصبغ بقوله إلى تبيين مراد ابن القاسم وإن كان لا يقول بقوله، وبالله التوفيق.

.مسألة الفحص العظيم البورليس لأهل المنازل المحيطة به أن يقتسموه:

قال: وسئل عن المنازل تكون محيطة بفحص عظيم ويكون لأهل تلك المنازل فيما يلي كل منزل منها أرض غامرة تحرث، وأكثر ذلك الفحص بور يرعى فيه أهل تلك المنازل وغيرهم من المارة ويحتطبون فيه، ولا يزال بعضهم يتزيد إلى أرضه العامرة منه، وكيف إن اجتمعوا على اقتسامه؟ قال: أرى أن يترك على حاله ولا يجوز لهم اقتسامه للمنفعة التي فيه لمن بعدهم ممن يأتي وللمارة التي قد جرت فيه منفعتهم من رعيهم ومناخ إبلهم واحتطابهم فيه، فإن فعلوا شيئا من ذلك لم أر لمن زرع منهم أن يدخل معهم في شيء من ذلك، قال أصبغ: ويمنعون ويرد ويترك على حاله، وهو الحق، وهو بحال الماء المورود وسطهم فهو للعامة منهم وغيرهم وليس لهم اقتطاعه ولا ردمه ولا شيء منه ولا لأحد منهم قرب منه أو بعد لا جميعا ولا شتى.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه أن الفحص العظيم البور الذي يرعى فيه الناس ويحتطبون منه ليس لأهل المنازل المحيطة به أن يقتسموه ولا أن يتزيدوا إلى عامرهم منه فيتملكوه لما في ذلك من قطع منافع الناس منه، وإنما اختلف في قسمة البور الغامر والمسرح والشعراء التي تكون بإزاء القرى متصلا بها حيث يشبه أن يكون من حيزها حسبما مضى القول فيه مستوفى في أول رسم سماع يحيى، وفي رسم أول عبد ابتاعه فهو حر، وبالله التوفيق.

.مسألة كان يبني رحى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما يردها من الناس:

من نوازل سئل عنها أصبغ وقال أصبغ في رجل كان يبني رحى أو بنى في جوار مغتسل لقوم أو مستقى فأرادوا منعه لغاشية الرحى وما يردها من الناس هل لهم منعه؟ وكيف إن كان على المغتسل طريق سائرة عامرة هل له بذلك حجة عليهم؟ وكيف إن غور صاحب الرحى مجازا فوقها لعامة أو لخاصة قريبا فردهم عنه إلى مجاز فوقه أو تحته هو أخصر لهم أو فيه بعض الجور عليهم إلا أنه لا مضرة عليهم فيه؟ قال أصبغ: الجواب فيه إن شاء الله إن كان يضر بهم وبغاشيتهم ومستقاهم وممرهم أو ينتقص منها شيئا فيفسده عليهم ويغور أرضهم إلى غيرها لم يكن ذلك له على حال إلا أن يكون تحويل الطريق الذي ذكرت الأمر اليسير جدا ليس فيه عطف عليهم في ممرهم ولا عرج عن سعة طريقهم إنما هو اليمنة واليسرة، الظل بالظل، والجنب بالجنب واليمين باليمين، شيء لا يتباعد ولا يضر، فإن كان ذلك كذلك مما لم يلحقهم ضرره ولا عاقبته في طريقهم إذا أقبلوا ولا مخرجه إذا أدبروا من طريقهم هذه الأولى ولا في غاشيتهم ولا في خشونة مستقاهم ولا في مغتسل، فإذا كان هكذا وصح فلا أرى بذلك بأسا، وإن كان عليهم فيها وكف فحيث وجد الضرر على الطالب وجب على السلطان دفع الضرر.
قال الإمام القاضي: هذه مسألة جيدة بينة صحيحة، وقد مضى بيانها ووجه الحجة فيها في رسم الصبرة من سماع يحيى فلا معنى لإعادة شيء من ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة لهم مجرى ماء وهم فيه أشراك فاندفنت الساقية فأرادوا حفرها وتنقيتها:

وسئل أصبغ عن قوم لهم مجرى ماء، وهم فيه أشراك، فلبعض الناس عليه أجنة كثيرة، ولبعضهم جنان أو جنانان، لبعضهم أكثر من بعض، فاندفنت الساقية، فأرادوا حفرها وتنقيتها، كيف تحفر على عدة الأجزاء أم على عدة الجماجم؟
قال: لا بل على الأجزاء والأنصباء فيه، والانتفاع فيه، وهو كالشفعة تكون على قدر الحقوق، وهو أيضا بمنزلة حقوق القسام تكون على قدر الحقوق والأنصباء، ولسنا بقول ابن القاسم فيه إنه على الجماجم، ولا نعلم شيئا من هذا يكون على الجماجم في أنواع العلم إلا كنس المراحيض المشتركة لأن الانتفاع بها وفيها سواء، ولا يحاط فيه بعلم معرفة ذلك، فإن اختنقت الساقية واحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع بأعلاها وبعض بأسفلها فدعا الأسفلون الأعلين إلى الكنس، وقالوا لهم: تكنسون معنا لأن مجرى مائكم علينا، فإن اختنقت عندنا أضرت بكم، وقال الأعلون: لا حاجة لنا بكنسها، وذكروا أنها ليست مضرة لهم فقال: أرى أن يكنسوا معهم لأن مجرى مائهم فيها.
قلت: فإن اختنقت في أعلاها فدعا الأعلون الأسفلين إلى الكنس فأبوا عليهم؟ قال: ذلك لهم إلا أن يعينوهم، وإنما أمرنا الأعلين بالكنس مع الأسفلين لأن مجرى مائهم ووسخهم عليهم، وليس للأسفلين على الأعلين مجرى.
قال الإمام القاضي: أما إذا اندفنت الساقية في أعلاها قبل أن تصل إلى واحد منهم، وهي إن نقيت وصل الماء إلى جميعهم، وإن لم تنق لم تصل إلى واحد منهم، فالذي ذهب إليه أصبغ من أن حفرها وتنقيتها يكون على قدر الحقوق لا على عدد الجماجم هو الأظهر مما قيل في ذلك لأنه أصل قد اختلف فيه قول ابن القاسم، فله في كتاب الأقضية من المدونة في أجرة القاسم إنما تكون على عدد الرؤوس لا على قدر الأنصباء، وله في أول سماع يحيى عنه من كتاب البضائع والوكالات في أجرة الأجير على الخصام أنها تكون على قدر الأنصباء لا على عدد الرؤوس، وذلك اختلاف من قوله، إذ لا فرق بين المسألتين في المعنى والقياس، وهذا الاختلاف داخل في مسألتنا هذه وفي غير ما مسألة، من ذلك مسألة نوازل سحنون من كتاب الجعل والإجارة في القوم يستأجرون الأجير وعلى حرز أعدال متاع أو حرز حبال مقاث ولبعضهم منها القليل، ولبعضهم الكثير، وما أشبه ذلك من المسائل، واختلف أيضا قول ابن القاسم في تنقية الكنف، فالمعلوم من مذهبه الأظهر من الأقوال أنها تكون على عدد الرؤوس، وهو على قياس قوله إنها تكون على قدر الأنصباء، وهو قوله في رسم باع شاة من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن تنقية كنف الدور المكتراة تكون على أرباب الدور، فتفرقة أصبغ بين كنس الكنف وسائر المسائل المذكورة هو أظهر الأقوال، ويتحصل في جملة المسألة ثلاثة أقوال: أحدها تفرقة أصبغ هذه بين تنقية الكنف وما سواها من المسائل، والثاني أن الحكم في جميعها أن يكون على عدد الأنصباء لأن من قال في كنس الكنف إنه يكون على قدر الأنصباء، وهو مذهب أشهب في سماع أصبغ من كتاب الأقضية، وأحد قولي ابن القاسم على ما ذكرناه، فأحرى أن يقول ذلك في سائر المسائل، والثالث أن الحكم في جميعها أن يكون على عدد الرؤوس لأن من قال في أجرة القسام وفيما سواها من المسائل المذكورة إنها تكون على عدد الرؤوس فأحرى أن يقول ذلك في تنقية الكنف، وأما إن اندفنت الساقية بعد أن وصلت إلى واحد منهم فإنه يقال للذي لم تصل إليه: إما أن تعمل مع الذي وصلت إليه، وإما أن يعمل هو وحده ويكون أحق بحظك من الماء حتى تأتيه بما يجب عليك من النفقة على الاختلاف الذي ذكرناه من عدد الجماجم وقدر الأجزاء، وأما إذا اختنقت الساقية بعد أن تجاوزت حظ أحدهم وهو الأعلى منهم فلا يلزم الأعلى أن يعمل مع الأسفل إذ لا منفعة له في العمل ولا ضرر عليه في تركه لتأتي السقي له في الحالتين جميعا، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على أصولهم، وقوله فيها: فإن اختنقت الساقية فاحتاجت إلى الكنس وكان بعضهم ينتفع وبعضهم بأسفلها لأنها هي الساقية التي يتصور فيها أن ينتفع بعضهم بأعلاها وبعضهم بأسفلها، وأما ساقية ماء السقي فأعلاها ينتفع به الأعلى والأسفل، وأسفلها لا ينتفع به إلا الأسفل وحده، وقد مضى الحكم في ذلك وتفصيل القول فيه. وأما حكم الساقية التي تجري في المحاج بالأثقال والرحاضات فالحكم فيه على ما قال أصبغ في الرواية من أن يعمل الأعلى مع الأسفل ولا يعمل الأسفل مع الأعلى للعلة التي ذكرها من أن ماء الأعلين ووسخهم يجري على الأسفل، وليس للأسفل على الأعلى مجرى، وقد بين ذلك سحنون فيما حكى عنه ابن أبي زيد في النوادر من رواية أبي بكر بن محمد فقال: على الأول أن يكنس وحده حتى يبلغ إلى الثاني، ثم على الأول والثاني الكنس حتى يبلغا إلى الثالث، ثم على الأول والثاني والثالث الكنس حتى يبلغوا إلى الرابع، هكذا أبدا حتى يبلغوا إلى آخرها، وهذا لا اختلاف فيه إذا كانت تجري في الأزقة والطرق، وأما إذا كانت تجري في الدور والأملاك فقيل: إن على كل واحد من أرباب الدور والأملاك أن ينقي ما في داره أو ملكه منها، وهو الذي يأتي على مذهب أشهب وأحد قولي ابن القاسم في أن تنقية الكنف المشتركة على قدر الأنصباء، وتنقية كنف الدور المكتراة على أرباب الدور لا على المكترين، وبالله التوفيق.

.مسألة هل يلزم استئذان الإمام في إنشاء الأرحى على الأنهار:

وسئل عن إمام اغتصب أرحية على نهر، وتلك الأرحية قديمة بذلك الموضع، فعمد الغاصب فخربها وبنى تحتها قريبا من موضع المغصوبة منه أرحية بنقض المغصوبة، فأقامت الأرحية بالموضع الذي أنشأها فيه الغاصب زمانا طويلا خمسين سنة أو أكثر تداولها أمراء، ثم إن ورثة المغصوب قاموا طالبين بحقهم فأنصفوا منه، وقضي لهم به، وأمر أهل الغاصب ومن كانت تلك الأرحية في أيديهم من ورثة أولئك الأمراء بقطع نقضهم من الموضع الذي أحدث فيه الغاصب الأرحية، وذلك إذ لم تقم لورثة المغصوب البينة على نقض، وقامت لهم البينة على أصل الأرحية فوق هذا الموضع الذي أحدث فيه الغاصب، فأمر بقلع النقص وخراب تلك الأرحية من أجل أن موضع الأول لا يمكن أن تكون فيه أرحية لقرب المحدثة من موضع الأرحية الأولى فشق على أهل الغاصب قلع نقضهم لما يصير عليهم فيه من المؤونة، فباعوا ذلك النقض من المغصوب، فلما اشتراه المغصوب وصار له بالموضع الذي كان الغاصب أحدث فيه أرحية رأى أن يقر النقض على حاله ويبني بذلك الموضع أرحية من قبل أن ذلك الموضع لا يجوز لأحد أن يبني فيه رحى لمكان ضرورته بموضع الأول وإن هذا الموضع ليس لأحد من الناس، وإنما هو نهر للمسلمين عامة، فبنى المغصوب منه بذلك الموضع أرحية وأنفق فيها أموالا عظيمة والإمام والقاضي وجميع الناس ينظرون إليه ينفق ويبني ويعمل حتى فرغ منها بالمؤونة العظيمة، ثم اغتلها بعد ذلك سنتين أو ثلاثا، ثم قام عليه الإمام اليوم بعد ما وصفت لك فأراد أن يخرب عليه الإمام ما عمل، وقال له الإمام إن هذا الموضع الذي أقررت فيه أرحيتك ليس لك، وإنما هو للناس، وأنا الناظر فيه وموضعك الذي قضى لك فيه فوق هذا، وأراد أن يخرب عليه، فكان من حجة المغصوب في ذلك أن قال: أما موضعي الذي بنيت فيه فإن الغاصب الأول حين أخرق أرحيتي ونقلها من موضعها إلى هذا الموضع أفسد علي المنصب وغدره، وإنما غدره ليصلح على نفسه هذا الموضع الذي نقل إليه النقض، ومع ذلك أيضا إني يوم غصبني هذا الغاصب لو أردت أن أنقلها إلى هذا الموضع لم يكن لأحد أن يمنعني منه، ولا على أحد فيه مضرة، ولا لأحد أن يبني بهذا الموضع أرحى لموضع ضرر ذلك بأرحيتي التي من فوق، وإن الموضع الذي أقررتها به ليس لأحد من الناس، بل أنا أعظم الناس فيه حظا لأني لا أترك أحدا يبني فيه رحى لأنه يبطل علي أرحيتي التي فوق، ومع ذلك أيضا أنه يقول المغصوب منه للإمام: أيها الإمام، أنت تنظر إلي أبني وأنفق الأموال وأستغل الأموال العظام، وأنت قضيت لي بتخريبها، ثم تزعم اليوم أنك أولى الناس بالموضع مني لأنك تزعم الناظر للناس، والإمام القاضي يقول خذ موضعك الذي قضيت لك له به فابن فيه ودع هذا لما يعلم أن ذلك الموضع لا يستقيم فيه أرحية بعد لما أفسد فيه الغاصب الأول وغدر ذلك الموضع، قال أصبغ: لا أرى لذلك الإمام القاضي نقضه عليه ولا العرض له، وأراه جاهلا خاطئا لما يريد أن يفعل من هذا فلا يخطئ ثانية كما أخطأ أولا، فقد أخطأ في الأمر الأول حين فسخه وعرض فيه لأنه لم ينقضه لنقض المغصوب منه بعينه، فقد ذكرتم في المسألة أنه لم تثبت له بينة على النقض أنه له ولا أنه بنيانه، وإنما فسخه لموضع المحدث على موضع الأول، ولم يكن من الصواب ذلك لأن الأول قد مات ما كان أحيا وصار الثاني كمن أحيا مواتا آخر بعده فلا يمات حي لموات قد مات لا يقدر على إحيائه لأنه قد استغدر وصار مواتا ممتنعا من الإحياء، وإنما كان يجوز له أخذ النقض لو كان للأول فيه نقض معروف كان أدخل فيه يوجد قائما أيضا لم يتغير ولم يبل مما كان يكون له منتفع إذا قلع كالسواري تحت البنيان تخرج إلى بنيان غيره إذا غصبت، فأما شيء قد بلي وأكله الماء فلا ينزع وإن كان غصبا لأنه لا ينتفع به، وموضعه ليس لصاحبه فينتزعه وصاحبه مضر، وإنما كان ينبغي للإمام أن يقضي في هذا للمغصوب منه بقيمة بنيانه ورحاه يوم هدمها الغاصب الأول، وإن كان الأمر هكذا في بلاء الحجارة والنقض، فإن كان ذهب بحجارتها مع ذلك بأمر مشهود عليه قضى له بالقيمة قائمة، وإن لم يذهب قضى له بما بين القيمتين ما نقص الهدم والفساد منها حينه إلى وقت قلعها مبنية، فإذا جهل هذا وأخطأه وأخطأ العمل فيه بصوابه وفسخ وأمر بالقلع وقضى به فاشتراه المغصوب منه وأقره بإقراره إياه وبما زاد فيه واعتمل وبنى فلا أرى أن يعرض له فيه ولا ينقض عليه، ولا ينقض الإمام حكمه الماضي له به لأنه وجه شبهة من القضاء والفوت، وإنما هذا بمنزلة ما لو قضى له فاشتراه غيره وأرضى صاحبه المنقوض له منه ومن النفقة وأقره لنفسه أو زاد فيه لم ينبغ في الحق أن يفسخ على هذا المشتري الأجنبي لأنه يصير ذلك بمنزلة محي مستأنف في ذلك الموضع، ولا يكون أيضا للإمام عليه خيار في قلعه أو إثباته بالنظر بزعمه للمسلمين، لا أرى هذا له ليس من قبل أنه علم به فأقره فقط، ولكنه من قبل أنه قد كان لهذا أن يحييه يومئذ لو كان معطلا مهدوما من أصله بغير إذن الإمام القاضي وبغير علمه لأن ذلك سنتهم في أنهارهم وعملهم وعملها مباح لهم فيها من أول الإسلام إلى هلم جرا لا يستأذنون إماما فيه لأن أنهارهم إنما هي لهذا ولمثله من المنافع، وهذا الغالب عليها ولمصائدهم كنحو أرحيتهم ليست مساقي في طرق حمالة ولا سيارة ولا مساقي لغيرها من الأرض ولا مركوبة فيمنعون المارة وغيرها فيمنعون حينئذ، وليست لها مصارف إلا هذه المنافع فهي لهم فيها وإن قربت من العمران.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة أرحى القنطرة بقرطبة لما نزلت كتب فيها إلى أصبغ، فأجاب فيها بهذا الجواب، وهو جواب صحيح على مذهبه في أنه لا يلزم استئذان الإمام القاضي في إنشاء الأرحى على الأنهار فيما قرب من العمران لأن الواجب كان في ذلك على أصله هذا إذا كان الغاصب قد خرب الرحى التي غصبها وغدر موضعها بالرحى التي أحدث تحتها حتى لا يمكن أن تعاد فيها الرحى أن يقر الرحى الثانية للغاصب على حالها، ويكون عليه للمغصوب قيمة رحى مبنية على ما كانت عليه يوم هدمها من جودة البناء ورداءته، وإنما كان يجب أن يقضي على الغاصب بتخريب الرحى التي أحدثها تحتها إن كان لم يغدرها بذلك، ويمكن إذا خربت أن تعاد على حالها ويكون عليه مع هذا قيمة بنيانها، فيمكن أن يتأول قوله وأمر القاضي أهل الغاصب بقلع نقضهم على هذا، ويقال: إن سكت عن ذكر قيمة البنيان للعلم به فلا يكون الحكم على هذا خطأ كما تأول أصبغ وهو الأولى لأنه يبعد أن يحكم للمغصوب منه بما لا منفعة له فيه من هذه الرحى المحدثة لا أكثر فيمضي مال الغاصب في غير منفعة تصل إلى المغصوب أو أن يحكم له بقيمة رحاه على الغاصب ثم يقضي عليه أيضا بهدم رحاه التي أحدثها، وعلى كلا التأويلين لا يكون للإمام ما ذهب إليه من أن يخرج المحكوم له المغصوب من الرحى المحدثة إذ قد اشترى نقضها من ورثة الغاصب الذين قضى عليهم بقلعه وأقره في موضعه لأنه ينزل بذلك منزلة بانيه الذي قد استحقه ببنيانه إياه لأن ذلك إحياء له على مذهبه وإن لم يستأذن الإمام لاسيما وقد بنى هو بذلك الموضع أرحية بعلم الإمام والقاضي وجميع الناس كما ذكر في السؤال، وقول أصبغ في هذه المسألة: إن من أنشأ رحى فيما قرب من العمران على نهر فليس عليه أن يستأذن الإمام في ذلك بعيد عندي، والصواب أن ذلك لا يكون له إلا بإذن الإمام إذا كانت الضفتان لجميع المسلمين كما لا يكون له إذا كانت الضفتان ملكا لرجل إلا بإذن ربهما، وقد قيل فيمن أحيا مواتا فيما قرب من العمران بغير إذن الإمام: إن للإمام أن يخرجه منه ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا، فعلى هذا القياس يكون للإمام في هذه المسألة ما ذهب إليه من أن يخرج المحكوم له من الرحى المحدثة ويعطيه قيمة بنيانه منقوضا، وبالله التوفيق.

.مسألة لا ضرر ولا ضرار:

من سماع حسين بن عاصم من ابن القاسم قال حسين: سألت ابن القاسم عن سداد الأرحية إذا كانت قد تقادمت في أيدي أهلها أربعين سنة أو خمسين سنة فيشتري قوم خشبا في جبل هو على ذلك الوادي فيريدون المرور بها في النهر حتى يبلغوها موضع نفاقها أو موضع حاجتهم إليها فيمنعهم أهل الأرحية ويقولون: لا تمروا بها على سدادنا ولا تخرقوها علينا، فيعطونهم على تلك الخشب ليفتحوا لها فرجا في سدادهم ويمتنعون بذلك أصلا فلا يريدون أن يفتحوا لهم لتمر خشبهم، قال ابن القاسم: أرى أن يوكل الإمام القاضي رجلا حازما ممن يخاف الله بهدم ما يضر الناس من تلك السداد في ممرهم بخشبهم وسفنهم ويترك ما وراء ذلك مما لا يضرهم في ممرهم بخشبهم وحوائجهم لسفنهم من سده لينتفع به إذا لم يكن في ذلك مضرة، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا ضرر ولا ضرار» فتفسير ذلك ألا يتخذ أحد ما يضر بأحد ولا يمنع أن يتخذ ما لا يضر بأحد، قال: ولا أرى أن يأخذوا من أحد شيئا مما وصفت لك، وأرى أن يؤمروا بهدمها وتخلية الناس في طريقهم في نهرهم كما وصفت لك، وأرى أن يخرق من ذلك السد لممر القوارب لحوائج الناس في حمولتهم وصيدهم وغير ذلك مما يحتاجون إليه إذا كان النهر تمر به القوارب العظيمة يحمل الناس فيه حوائجهم من أطعماتهم وغير ذلك، وليس لأحد أن يقطع بسده ممر الناس في النهر.
قال الإمام القاضي: وهذا كما قال؛ لأن منفعة عامة المسلمين بالمرور في النهر بخشبهم وقواربهم لوجوه منافعهم لا يستحقها عليهم أصحاب السداد بطول المدة، إذ ليس هو حق لمعين فيحمل عليه بطول السكوت أنه راض بترك حقه في ذلك، فالواجب في ذلك ما ذكر من أن يخرق من السد موضع تمر منه الخشب والقوارب لمنافع الناس من حوائجهم وصيدهم، ولا يهدم جميع السد فيبطل على صاحبه رحاه وإن كان المرور في النهر يسهل بذلك؛ لأن الضرر على صاحب الرحى بإبطال الرحى عليه أكثر من الضرر الذي يلحق المارة في مرورهم على الموضع الذي خرق منه، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا اجتمع ضرران نفى الأصغر الأكبر» فتأوله أهل العلم في مثل هذا المعنى، وهو كثير في غير ما وجه واحد، ولو أراد رجل ابتداء أن ينشئ رحى في حقه على النهر ويقطعه بسد لم يكن ذلك له إلا أن يترك بالسد بابا مفتوحا يمر به من احتاج إلى المرور فيه إذا كان المرور فيه متصلا، وإن لم يكن متصلا كان له أن يسده في الأوقات التي لا يحتاج الناس إلى المرور عليه لأن النهر كالطريق فلا يباح لأحد أن يحدث فيه ما يقطعه، ولا يمنع من أن يحدث فيه ما ينتفع به مما لا يضر به ولا يقطعه، وأما إن أراد أن يحدث فيه ما يضر به بعض الضرر ولا يقطعه فذلك إلى اجتهاد الإمام القاضي في أي الضررين أكبر إن كان الذي على المارة فيه أو على الذي يمنع من منفعته فيما يريد أن يبني فيه أو ينشئ عليه، وقد وقع في المبسوطة لمحمد بن إبراهيم المدني خلاف قول ابن القاسم هذا، قال: وسئل محمد بن إبراهيم المدني وكتب إليه من الأندلس عن الخشب التي تقطع بالمغرب عندنا فتطرح بالوادي فربما مرت بأصحاب السداد فيمنعونهم من خرق السداد وهم يصلحونها كما كانت فقال: إن كان خرقهم إياه يضر بصاحب السد لم أر أن يخرقوا شيئا، وإن كان لا يضر بهم وهم يصلحونه لا يخاف عليه حاله من أجل ما أخرق صاحب الخشب بعد إصلاحهم إياه فأرى أن لا يمنعوا من خرق ما مروا به على ما ذكرت لك، وقول ابن القاسم أظهر لما بيناه، والله أعلم.

.مسألة لا تحجروا على الناس:

قال: وسمعت ابن القاسم يقول في الرجل تكون له الرحى القديمة فيتخذ رجل تحتها رحى فيقول صاحب الرحى القديمة: أنا أخشى أن تضر هذه الثانية برحائي فيبعث معهم رجالا من أهل البصر بالعمل فيقولون: لا فساد على رحاه من الرحى التي تحتها، فيأمر بالعمل ويأذن له بالبنيان، فإذا فرغ أضرت بالرحى العليا وجمعت عليها الماء فلم تتركها تدور، قال ابن القاسم: إذا اجتهد السلطان أولا كما ذكرت ثم أمره بالبنيان بعد أن رأى أهل البصر أنها لا تضر ثم أضرت فلا أرى أن تقلع، ولتقر على حالها، لأنها حكومة قد وقعت، فأنفق بها صاحب الرحى نفقته فلا سبيل إلى ردها، وليصبر صاحب الرحى العليا، قال ابن القاسم: ولو تركه صاحب الرحى العليا فعمل حتى طحنت رحاه وفرغ منها، ثم قام إلى السلطان وذكر ضرها فلم أر للسلطان أن يهدم الرحى عنه لأنه قد تركه حتى أنفق عليها النفقة العظيمة ثم يريد قلع عمله فليس ذلك له إذا كان حاضرا يرى عمله: قال ابن نافع أرى أن لا يمضي الضرر فيها على أحد كان أمر السلطان بالنظر فيه أو لم يأمر، وأرى أن يقلع إذا تبين لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا ضرر ولا ضرار».
قال ابن وهب: إذا رآه يبني حتى طحنت ثم أراد منعه من ذلك لم يكن ذلك له كانت رحاه قائمة أو قد خربت لأنه تركه ينفق ويحوز ما كان هو قد حازه من النهر حتى صار لغيره ثم أراد القيام عليه فيه فليس ذلك له لأن النهر موات، وقد قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تحجروا على الناس.
قال محمد بن رشد: وقع في بعض الكتب في هذه المسألة زيادة متصلة بقول ابن وهب، وهي: وقال ابن وهب فيمن أحيا مواتا ثم تركه فأحيا غيره فهو لغيره، وفي قول عمر هذا بيان من هذا، قال ابن وهب: فإذا ادعى صاحب الرحى القديمة أنه إنما كان تركه إياه على غير علم بضرورته وكان ذلك لا يخفى على أحد من الناس أنه يضر لم يكن له قول، وأقرت الرحى المحدثة على حالها، وإن كان ذلك يخفى حلف صاحب الرحى القديمة وكان له أن يقلع إن شاء، وفي هذه الرواية بيان لما يتأول عليه قوله بعد هذا إن شاء الله. ومساواة ابن القاسم في هذه المسألة بين الذي يبني بأمر السلطان وحكمه، وبين الذي يبني بحضرة صاحب الرحى العليا وعلمه في أن بنيانه لا ينقض، والمعنى الموجب لذلك مختلف، أما الذي يبني بأمر السلطان وحكمه فإنما قال ابن القاسم إن بنيانه لا يقلع وتقر رحاه على حالها من أجل أن الخطأ في ذلك ليس هو منه وإنما هو من الشهود إذ شبه عليهم فظنوا أن بنيانه لا يضر بالرحى التي فوقها، فكان ذلك بمنزلة الشاهد يرجع عن شهادته بعد نفوذ الحكم فيقول: شبه علي ويدعي الوهم والغلط فمن قولهم إن الحكم لا يرد، وإنما اختلفوا في الشاهد هل يغرم التالف بشهادته أم لا حسبما مضى القول فيه في أول سماع عيسى من كتاب الشهادات؟ فعلى القول بأن الشاهد يغرم ما أتلف بشهادته وإن ادعى أنه شبه عليه فيها يلزم أهل البصر في هذه المسألة غرم قيمة الرحى العليا إن كانت بطلت، أو غرم ما نقص من قيمتها إن كان نقص بذلك طحينها ولم يبطل جملة، وأما على القول بأن الشاهد لا يغرم ما أتلف بشهادته إذا كان قد شبه عليه فيها ولم يتعمد الزور فلا يلزمهم شيء إلا اليمين إن ادعى عليهم صاحب الرحى العليا أن ذلك كان مما لا يخفى عليهم، وأنهم تعمدوا الزور في شهادتهم على الاختلاف في يمين التهمة، وذلك إذا كان ذلك مما يمكن أن يخفى، وأما إن كان مما لا يمكن أن يخفى على أحد من الناس فيلزمهم الغرم، ولا يمكنوا من اليمين. وأما الذي بنى بحضرة صاحب الرحى العليا وعلمه فإنما قال: إن بنيانه لا يقلع ويقر على حاله من أجل أنه جعل سكوته على البنيان مع العلم به كالإذن له فيه، وهو أصل قد اختلف فيه، قوله حسبما ذكرناه في غير ما موضع من هذا الديوان، وكذلك ساوى ابن نافع أيضا بين المسألتين في أن البنيان يقلع ولا يمضي الضرر على من حصل عليه، ووجه ما ذهب إليه أنه رأى حكم السلطان بذلك خطأ منه إذ قد تبين الضرر فبان له أنه قد أخطأ في حكمه ولم ير السكوت بمنزلة الإذن، وقول ابن القاسم أصح لأنه لم يخطئ في وجه الاجتهاد وإنما أخطأ عليه الشهود، ولو أخطأ في وجه الاجتهاد مثل أن يظن أن من حقه أن يبني رحاه في حقه وإن أبطل ذلك رحى غيره لوجب عليه أن ينقض حكمه بذلك قولا واحدا، إذ لم يختلف في أنه ليس له أن يبني رحى في موضع يبطل به رحى غيره، وإنما اختلف هل له ذلك إذا كان لا يبطلها وينقص من طحينها حسبما مضى القول فيه في رسم المكاتب من سماع يحيى، وفي سماع محمد بن خالد وقول ابن وهب في الذي ترك الرجل يبني رحى في موضع يضر برحاه ثم أراد أن يقوم عليه في ذلك أنه ليس له ذلك موافق لقول ابن القاسم في الجواب ومخالف له في العلة، لأنه جعل العلة في ذلك أن النهر موات فمن أنشأ فيه رحى كان كمن أحيا مواتا من الأرض إن تركه حتى عاد إلى حالته الأولى كان لمن أحياه بعده، فجعل تركه إياه يبني رحى في موضع يبطل به رحاه بمنزلة تركه إياه رحاه حتى تبطل، إذ لو ترك رحاه حتى تبطل وتذهب ويعود الموضع إلى حاله قبل أن يبني فيه الرحى لكان لغيره أن يبني في ذلك الموضع بعينه رحى، فكيف فيما قرب منه؟ وهذا إنما يصح فيمن بنى على النهر رحى في موضع لا حق له فيه وإنما هو لجماعة المسلمين، وبالله التوفيق.